تهالكت الأقدام رديئة الوزن تهضّ صمت الرّخام الحزين. والمعزّون، على أوْجعٍ من الفاجعة، يتبعثرون وقوفا جهما في انتظار أن يخرج صاحب الدّار، كان أُدخل غرفة أخليت من أثاثها الوثير يغتسل من بهجة الحياة ويلبس بياض الرّحيل المتداول.
كان ممشى الحديقة المنزليّة ممرّا طويلا مسقوفا بشبك الشّجر وأفياح الزّهور، يفرشه الخريف أوراقا صفراء تهسهس تحت الأقدام، وتتهشّم من جفاف وذبول موقِّعة هَمْل مدامع الحزانى والحزينات.
خبط عبد الكريم الأرض بقدميه. كان يسند عماه إلى كتفها بيد، ويمسك بالأخرى مِقْبَضًا مُعقّفا لقضيب معدنيّ صدئ يلزم سيره أنّى حلّ. يخربش به الأرض يمنة ويسرة فيقرأ مهاوي الطّريق التي يسلك، أو يلوّح به الفضاءَ الكفيف فيزجر مشاغبيه من المارّة.
مشت رفيقة إلى جانبه عُودا أخفج ناحلا، يكسره ثقل الحِمْل عند أعلى العجيزة، وتغمره فضفضة فستان طويل تهدّلت حواشيه السّفلى خِرقا متّسخة. كانت تجرّ نفسها مثقلٌ ظهرُها بما تحتقب، وتقبض بيديها على طرف كيس الخَيْش البنيّ يمتلئ حتّى بطنه صدقات منتبهة لسيره الأهوج أن يعثر فيزلق ويقع.
أوْفض الممشى بِنُوَاح الحديقة إلى ناصية الشّارع الأنيق فأخذت أجزال الرّهبة تتلاشى، وتمتزج بالأغاني الصّاخبة تقْدم من جوانبه، فتنسحب طريق مهّدت للرّوح الصّاغرة على عتبة الفناء معابر النّدم نحو الآخرة، لتُفسح في النّفوس لأنغام الحياة ترقّص الغرائز في بطحاء العشق على أحرف الغزل اللاّهبة.
أغرت الألحانُ المتضاربة رفيقة أن تتدارك رمق الوهيج الباقي على تقاسيمها المُذْواة تأخذ بالخبْو يوما فآخر. تخلّل فرح اعتزال التّسوّل قتَرة وجهها ،وأومض على زغب الشّيب يتسلّل من تحت الورود الكبيرة تتفتّح على البياض المعتكر من غطاء الرّأس. لم يكن التّسوّل مهنة سهلة، كان الأقلّ وهْما من حرفة البغاء المحترف تغدق عليها الحبّ والشّبع، ثمّ ترْكنها العتَمَةَ مع شروق التّجاعيد على وجهها.
"بل لم يكن لي وجه جميل يقدر أن يخوض غمار المنافسة، وقامتي ضامرة ذاوية المفاتن لا تغري أحدا. صارت كفّي البغيَّ ترتاد كلّ الأرصفة وتعرض نفسها على كلّ عابر..
الجوع مملكة للشِّرْك تغدو فيها حفنة القوت البسيطة ربّا ذا بأس، والعمر نُذُرا تحترق.. لا بأس بالأمر لو أسندتِ همزة ما بعد الأربعين الأوْداء إلى هذا الجدار العظميّ يا رفيقة. عبد الكريم رجل اعتدتِ على عرقه النّتن وعماه المقذع، واعتاد على قذاء لسانكِ ومسند يده من كتفكِ الأعجف. أنت أنثى معدّة سلفا للحذف من قوائم الفرز عند الذّكور إلاّ من زاملك في وضاعة الحياة، وحده هذا يقبل أن يختصرك في حاجة واحدة ينالها تحت سقف الظّلمة العطنة وتختصرينه..".
سُرّت. طفر من الخيال صبيّ ينتش شعرها، وينثر لعابه على وجهها متهجّياً كلاماً قبيحاً فنهرته معجبة بلسانه الطّليق فخورا بطفل الشّرّ في عينيه.
"شرس الطّباع هذا الولد، فصيح البذاءة كأبيه..".
دنت منه يلامس جنبُها كيس الجلد الأجرب المدلّى على جانبه. اِغتبطت خواطرها الماكرة.. سيكون لها أن تندسّ تحت أخلاق ثوبه، وتلاعب بِشَرَهِ الظّامئ يسقط في عينِ نميرٍ فرُشَ الأوراق الماليّة الكثيرة يخفيها بين ثوبه ولحمه الوسخ.
اِبتهج عبد الكريم لعرقها المعتّق يهفهف لِزْق أنفه. اِنغرزت أصابعه اليابسة في حفرة الكتف، وعبرت رأسه ذكرياتٌ خليعة الصّور مجنت به، قبل أن تنفقئ عيناه في إحدى الخصومات الضّواري. خشع لشاشة الخيال الثّمِل رأسه، وأمالَه إلى الأعلى قليلا كأنّ بروقا مثيرة الومضات ترمح في سمائه الدّكناء. قرقرت ذاكرة الخيال بالجعّة في قواريرها، وتشظّت زجاجاتها على جنوب الجدران الشّائطة. رفّ جفناه المنطفئان بسرعة منفعلة. أحكم الضّغط على التُّرْقُوَة من كتفها، وهاجت حركة العصا الحديديّة في يده الثانية، تجْلد الأرض والسّماء بلا هوادة فوَكزها بعقبه الحادّ فاستطارت سبابا، ونهرته لاذعة اللّسان، وهدّدت أن تتركه منفرداً يتلمّس العودة في طريق دهماء. اِنتهر يغدق عليها أعذارا من عبارات فاحشة، وحنكاه يطقطقان ويتلمّظان من شهوات استُنفرت فيه، ثمّ انفجر سرورا أخْرَق أغاظ من لَمَح فَلْجة فمه الأدْقم تتّسع للضّحك، وتنثر طشيش اللّعاب المنتن حين القلوبُ من حوله دامعة.
اِنقشعت سوْرَة الخريف. خلعت السّماء سواد الغضب توقد قائلة وهِجة، وتُسيّح أشعّةَ الشّمس جداول باهرة الصّفرة تلفح خدود الجلّنار الفائرة، وتنضج فتيان السّفرجل. اِبتلعت المدينة فيضها وغلّقت مواسيرها، وخرجت من عاصفة الأمس الحرون مجلاّة واجهاتٍ خالبة وطرقا نظيفة مزدانة.
اِرتكزت رفيقة إلى قضيب المعدن الطّويل ترفع ظهرها عن الجدار الخرِب، وقامت عسراً ترتاد الشّوارع وتشحذ كُفُوفها المتعالية.
سارت تثّاقل فارغة الفؤاد، تشقّ زحاما خضمّا يرشق سيرها الرثّ هزءا وزِراية. كانت تجرّ خلفها عصا عبد الكريم الحديديّة وترفل في روْنق زفاف تعفَّر بياضه: ثوبا تتأرجح منه أسلاك الفضّة المنتوفة وتتساقط حبّات العقيق، فستانا قديما جادت به إحدى ربّات البيوت بعد أن تخِمَت ضحكا من نوايا متسوّلة خبيثة، تطمح هي أيضا أن تتزوّج فتستتر ببيت من الأسرار الحميمة ككلّ النّساء..
- لكنّ البيت متهدّم الجوانب مخلّع المزلاج، بسقف يخرّ مطرا وقرّا وحرّا يا رفيقة..
- وأدهى يا سيّدتي.. ولكنّه يظلّ متاعا شخصيّا، أُشْرِك فيه رجلا وعين الله مرضيّة.. له الرّجعى في نهاية الأمر.
- الزّواج أكبر من حجمك يا مسكينة. اِقنعي بنصيبك من الحياة. هذا قدر مسطور على جبينك.
- لكنّ الولادة بحجمي أيضا وسطراً كبيراً من جبيني. أحبّ أن أنجب كسائر إناث الأرض، فأترك لي خَلْفا يحتلّ ركني الحقير من حيّ السّؤال.. يحتاج الرّصيف روّاداً جددا.عينا بيضاء تنزّ شفقة، كفّا عاهرة تعترض القوارع والنّواصي، ساقا مبتورة ترمي بصاحبها على أرصفة الشّحاذة. نسْل موهوب يتقن فنّ التّسوّل عن وراثة وعراقة. نحن أوْلى بتعمير الشّوارع يا سيّدتي، هَبيني فقط فستانا للزّفاف ودعي بقيّة أمري للقدر. أهفو لفرحة العمر ورائحة الحنّاء.
اِفترّت للذّكرى الموحلة شفتان تخضّبتا بصفرة السّواك الباهتة. اِرتسمت بسمة غبيّة ختمت بوصمة الخبل على وجه سربله شعر أشهب لبّدته المياه المتربة المجفّفة عليه. لزبت في رأسها تفاصيل الأمس واعتكرت. فرقع صوت زوجها المرتاع من جنوبها الطّاوية. صوّت الجوع في أمعائها. اِلْتصق الفستان بلحمها وضاق عليها لشدّة الحرّ. تضايقت. اِنزعجت. حنَقت. وقفت قلب مفترق الطّرق المكتظّ. تلعثم نظام السّير وانهالت عليها الشّتائم سياطا نابية. لم تعبأ واتّسع العَته في ابتسامتها. أبرق الوجوم على المعبّد يرجّع استغاثات مطاريد ماء السّماء في مدينة حسناء، صحت مُفْجرة تؤنّب المطر الهَطِف وتلعن الغدر. أحد ما اقترف فعل الخيانة حين اعتزمت هي الوفاء لسنّة الحياة، والاكتفاء برجل واحد في حياتها تشكّ أن يَفِيَ بوعوده فينفق لأجلها ورقة نقديّة واحدة ممّا يدّخر. لعلّها الفصول يجور بعضها على بعض. لعلّها المدينة عمدت تُرْدِف أحياءها الفقيرة على ظهرها المقعّر، فكلّما تفجّرت بطون السّحب تحدّرت الأزقّة والدّروب الجرباء بأهلها أسفل النّائمين رغدا.
تهزهزت رفيقة ضحكا يرجّ جسمها النّاضي فتأوّدت له تحني ظهرها فيكنّس طرف الفستان ما أهملته مكانس البلديّة من آثار العاصفة، وترفعه فتطيش عصا الحديد حركة عشواء تشرع الصّدأ المندّى في العيون الحانقة.. ضجّ الاحتفال بأذنيها يدفّ ويجعجع فيُنْزِف صبرَها.
- أَغرِق عبد الكريم فعلا في جوف الماسور..؟ من قال..؟ من شهد..؟.
- أنا رأيته بأمّ عيني يهوي فيه ويحثو عليه الماء فيض التّراب والأوساخ..
- أنتِ سفيهة محتالة وبلا وثائق للهويّة.
-نعم، ولا أساوي في حضرة العدالة عُشُر شاهدة نَسَّاءَ لا أخت لها. ولكن هذا لا ينفي أنّه غرق في الماسور حين كنّا نحتفل بزواجنا. اُنظروا.. لا تحطّ يده على كتفي كعادته.. أنا لم أهجره، هل أهجر رجلا يتزوّجني؟.
من حرّض الخريف أن ينقلب علينا البارحة تحديداً..؟.
- لا أحد. أظنّ أنّ فرحكم تحرّش بحفيظة الأحياء الهانئة، فأخلصوا عليكم الدّعاء فاستجابت السّماء طوفانا من السُّخط.. وأغضب الله أيضا. قد تباريتم في المنكرات وتفقّهتم في الفواحش بلا حسبان.
- صحيح. غاليْنا كعادة المحرومين إذ سنحت لهم فرصة للشّبع. أما كنّا نستأهل أن نُمْهل فصولا إضافيّة أو ليلة أخرى على الأقلّ..؟ هذه المدينة تفحش بالسرّ والخفاء، لمَ لا تؤخذ بالغضب؟.
وعبد الكريم.. من هو؟.
مجرّد أعمى قبيح وضيع وسخ شحيح، يكنز مالا جمّا لا يصرف منه مقدار ملّيم يتيم، من أين له أن يأتي حسنة واحدة يُؤْجَر عليها..؟.
وأنا.. ؟.
لم أوهب من الحياة ولو اسما أُنادى به يوم الحساب. دُعيت "رفيقة" تيمّنا برفقة القطط اللّقيطة..
يا ربّ، يا خريف، يا مدينة.. لماذا؟.
كنّا سنأتي الفعل الحلال الوحيد في حياتنا.
ضرمت آلامها وانفلت فيها عقل الغيظ من قبضة النّقمة إلى فورة الجنون. كفّت عن محادثة نفسها. اِكفهرّت قسماتها. نشطت ضحكا وغناء وتمايلت ترقِّص في حلبة الفضاء المتّقد عود المعدن على إشارات الضّوء المتلوّنة. طربت حقدا تناكف عابثة نزق المارّة تقيء ألسُنهم ما تحت فخامة الأثواب من فحش الكلام ورداءة الطّوايا.
كانت تحتفل مفردة بزفافها المُلْغى وتشهره ملء الزّحمة الحانقة.
أمس الجميل، أبكرت تعدّ نفسها لليلةٍ شريفة، تعتزل فيها الشّارع الانتهازيّ والبغاء الرّخيص. أفحمت رأسها سوادا يغلّف أسياخ الشّيب. اِستحمّت. اِستاكت. اِكتحلت. لبست فستان العرس وبعض المصوغ الفضيّ تصدّقت به عجوز من الحيّ المجاور. تذكّرت أساور بيدها يكفّنها الوحل المجفّف. حرّكتها فلم ترنّ فاغتاظت والْتفتت ترجم العابرات شتما قاذعا.
" لمَ لا تسخون بما غلا عندكنّ..؟ البغيضات تُردن أن تحتفظن باللّمعان لأنفسكنّ..
أَمِن العدل حقّا أن يكون للأجياد منزلة صاحباتهنّ..؟
بلى يا رفيقة، مثلما للحفا أقدامه المقدّرة..".
أمس الغريق، تبرّج حيّ السّؤال تبدي زواياه شِياطها وعطنها وحيطانها المجدورة. فاحت كراهة الروائح تخالط حنّاء العروس، وكلس خربتها المطليّة حديثا. هزجت الخرائب وهِدَم البيوت المهجورة. صَدَت مصّبات المزابل القريبة بالفرح الملتاث. تنادى المتسوّلون من فُلَل الأحياء المجاورة يحضرون حفلة الزّفاف. حملوا السّطول وعلب الأغذية المفرغة، يجعلونها درابيك ودفوفا وصحونا لِحَوْي الأطعمة المجمّعة من روافد الصّدقة والحاويات.. كانت فرصة مذهلة تعالت فيها الأكفّ السّفلى قليلا على ذلّ الانبساط فتنفق بعض ما تملك ولا تُلْحِفُ في الشّحاذة.. اِبتاعوا ماركات رديئة من التّبغ، وألوانَ مشاريب لاذعة، وصنوفا متنوّعة من المخدّر، وفواكه، ولحوما تشوى على شرف المناسبة النّادرة. أقبل اللّيل. ترنّح المحتفلون. تماجنوا. تفاحشوا. تطاولوا في الرّذائل والمتع الموبقة. رذّت السّماء. اِستبشر التّراب بالبلل. اِبتهجوا للرّذاذ رؤوفا ينهمر فانشقّت المآزر الوسخة والقمصان المنتنة عن الصّدور المكتحلة تسفر عن أخباء دمنة. غزر الهطل. اِستعادت النّدوب المنسيّة ذاكرة الجراح الخامدة وتطارحت ويلات السّنين الغابرة. سعت رفيقة تحبك شركا لزوجها ينقذ ما وذَر من وعيه المخلخل، واجتهدت تحتال عليه ليدخل معها البيت فلم يُطعها. ثجّت المُزْن الثّقال مطراً عرماً. أفرغت الشّوارع المرتفعة بطونها على الحيّ الخفيض، وهرهرت فيه السّيول مندفعة. تساقط المبتهجون يتمرّغون في المياه المتحدّرة صرعى البكاء والنّشوة والعقول الخاوية، وحيّ السّؤال يجرجر مكبكبا في مجراه المعتاد إلى أسافل المدينة.
كان الماء يجرف الأغاني الخليعة والنّشوات النّزقة والفرح ودرابيك السّطول والعلب والقوارير والأكياس والصّرر والحشايا المهترئة ونعال الموتى المُتصدَّق بها وأثوابهم. تدحرجت الحاويات تنعطف إلى شارع آخر، أو ترتكن عند زاوية حادّة. وبَل المطر أكْثف. اِدلهمّت السّماء والعيون. تسدّلت ستور الظّلام تطمس سطوع المصابيح المعلّقة على جوانب الحيّ. سقطت رفيقة عاثرة في حفرة ما. ِارتاع عبد الكريم . فقد مرشد عماه من كتفها. اِبتعد. خبط تائها في السّواد العميم. اِصطدم بجدار. فقد عصاه. سار وحيدا يتلمّس موضع الغرق لقدميه.
كان يرتعش في سترة زرقاء ضيّقة وبنطال قصير، تخْوَى ساقاه هلعا، ولا ينفكّ يحوط نفسه بين الصّرخة والأخرى بذراعيه متفقّدا ثروة أفنى العمر يُرْبِيها بين لحمه وثوبه تتنقّع الآن في غُسَالة جسمه الدّرِن. يصرخ مهتاجا بالفزع. يسبّ أوهامه ويلعن رفيقة. يعارك أخيِلة ويضرب سُجف الماء المنهمرة.. "ملعونة يا رفيقة طمِعْت في ثروتي فأهلكتِني فيها. ملعونة يا رفيقة. لن تنالي منها ملّيما واحدا.."
ولمّا تفطّنت إليه رفيقة كان يُسلم خطاه للمياه الجائحة.
لم يعرف وقتئذ كيف يلبّي صوتها الرّحمة. اِستدار على أعقابه فانزلق يتساقط إلى ماسور كبير انفتحت فُوَّهَته تحت ضغط الماء المتلاطم في جوفه.
أُفرج عنها بكفالة الشّفقة، وغادرت مركز الشّرطة هادئة، عاقلة، ناقصة ذكرى.
سُحبت منها أداة الجريمة المحتملة. أوشكت أن تفقأ عينا أو تفتح جرحاً أو تصيب أحداً بأذى الحديد، لولا أن تدخّل أعوان من حرس المرور.
لم يَعُد الآن لعبد الكريم أدنى أثر. اِمَّحى اسمه بسرعة من ذاكرة الشّوارع ومراقد الأرصفة.
كأنّه لم يعش أمّة من الضّنك والشّقاء إلاّ مدى ما بين صرختين. قذفت به الأولى من عتمة الرّحم إلى حاشية المزبلة، وأوصلته الثانية إلى مصبّات الأوساخ المغسولة.
خمدت قائلة ذلك اليوم ونفخت بالعشيّة نسائم باردة. اِحمرّت السّماء نشوة كأنّ غائلة تحتها لم تُرتكب. اِستبدلت رفيقة الأحلام الفضفاضة بثوبها البالي، وعادت تطلب رزقها بأحلام واقعيّة معتدلة.
تركت خلفها الأغاني الولْهى تغازل القلوب النّاضجة، وولجت الممشى المسقوف بشبك النّبات والعطور يحتفل أهلُه بأربعينيّة صاحب الدّار. ملأت كيس الخيش البنّيّ صدقات جزيلة وخرجت ثقيلة الخطو، وعلى كتفها وضع رجل كفّه العمياء. دسّت رفيقة يدها مخاتلة تتحسّس جوانبه بحثا عن نقوده المحشورة بين لحمه الوسخ وملابسه، ولهث هو إلى جانبها يخبط في ظلمات الطّريق، مفكّرا في حجم الثّروة التي استولت عليها أرملة أخيه عبد الكريم، غازلاً لليلته الأولى معها أفحش الكلمات.